الأمريكي إذ يأمره دينه بقتل ابنته كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد نشر موقع "BBC"
خبرًا عن محاكمة أب أمريكي امتنع عن علاج ابنته المصابة بالسكر حتى فارقت
الحياة، وعلل هذا بأنه اعتقد أن التوجه إلى الرب بالصلاة كافٍ في علاج
ابنته.

ومضى حتى كتابة هذه السطور
أيام، ولا أظن أن الأمر سيتغير، ولو مرت أعوام من السكوت التام من
"المفكرين"، و"المحللين"، و"الإصلاحيين"، و"التنويريين"... وهذه الطوابير
الطويلة التي تتصيد كل خطإ فردي من أي مسلم؛ لتقيم حفلات الندب والنياحة
على العقل المسلم المغيب في "الميتافيزيقيا"، والمجتمع المسلم الغارق في
الخرافة إلى آخر هذه الطنطنات التي اعتدنا سماعها من هؤلاء القوم.

وابتداءً
بـ"بندكت" والذي استهل فترته وبلا مناسبة بخطاب عاب فيه على الإسلام عقيدة
الجبر، وما ينتج عنها من السلوك التواكلي، انتهاءً بأذناب العلمانية في
بلاد المسلمين، والذين يكررون نفس كلام "البابا" مع تغيير كلمة "الإسلام"
بكلمة "الإسلاميين"، والتي لا يختلف معناها عندهم عن كلمة "الإسلام"
كثيرًا.

فالقوم يعتبرون كل خطإ من
مسلم هو خطأ للإسلام ذاته، حتى ولو صادم ذلك نصوص الإسلام الصريحة، وفي ذات
الوقت يعتبرون كل خطإ عندهم خطأ فرديًا؛ حتى لو كان يمثل في واقع الأمر
الفهم الذي ينبغي أن يكون لمناهجهم سواء الدينية أو السياسية.

فعلى الصعيد السياسي:
يمثل غزو العراق مثالاً فجًا لذلك؛ حيث اشتركت فيه دول الغرب جميعًا
بقيادة أمريكا، ثم لما أرادوا التنصل من مسئوليته حملوه لأمريكا التي حملته
بدورها لـ"جورج بوش الابن" وحده، وكأنه
طوال حكمِ ثماني سنوات كانت دوائر صنع القرار الأمريكية كلها في غيبوبة!!
وأما على الصعيد الديني:
فالحروب الصليبية التي أتت باسم الصليب، وبتحريك مباشر من الكنيسة لا يسأل
عنها دينهم! وما ارتكب في كل حروبهم من جرائم لا يسأل عنها دينهم على
الرغم من نصوص قتل الأطفال والصبيان التي تملأ العهد القديم من كتابهم
"المقدس"!!

وبصدد هذا الخبر نود أن
نؤكد أن هذا الرجل فهم دينه فهمًا صحيحًا؛ ولكن الآفة ليست في الفهم، ولكن
في المفهوم، لقد رمى "بندكت" الإسلام بفرية الجبر والتواكل، محاولاً في ذات
الوقت أن ينسل منها، ولكن أنى له أن ينسل وكتابه "المقدس" شاهد عليه؟!
وفوق هذا أنه يُبتلى حينـًا بعد آخر بمن يقرءون هذا الكتاب، ويعملون بما
فيه كحال صاحب هذه القصة.

إن كتابهم المقدس بعهديه مؤسِس لعقدية الجبر والتواكل لا سيما في باب التداوي!
ولنبدأ
بالعهد القديم وبمنهجه في قضايا الأخذ بالأسباب بصفة عامة، وهو أمر لا
يكلف الباحث فيه كبير عناء؛ حيث يمثل العهد القديم ملحمة لشعب مضطهد
دائمًا، مستسلم دائمًا، منتظر دومًا لمخلص خارق يخلصهم ليلقبوه بـ"مسيح
الرب"! حتى ولو كان "قورش المجوسي"، حتى راجت بعض قصص التوراة في سوق
"سينما الأكشن" كما في قصة "شمشون ودليلة" وهي قصة تحتل من الإصحاح الثالث
عشر إلى السادس عشر من سفر القضاة!

وملخصها:
"أن ملاك الرب قد بشَّر امرأة عاقرًا بأنها سيولد لها غلام مبارك يكون
خلاص بني إسرائيل على يديه، بشرط ألا يمس الموسى شعر رأسه -إذن الخلاص قدري
ومعلق على أمر لا هو من أسباب قوة الإيمان، ولا من أسباب القوة المادية،
ولعل هذا يذكرنا بالطرفة التي تحكي أن شارحي كتابهم يضطرون كثيرًا إلى
استعمال عبارة: "هذه حكمة الرب يا أحباب"-، المهم أن هذا المخلـِّص قد ولد
ولم يمس الموسى شعر رأسه، ولكنه لحكمة لا نعلمها كان مولعًا بالفلسطينيات
من بين زواج وهو محرم عليه في شريعته، وبين زنا صريح، وفي كل مرة ينتهي
الأمر بمعركة بينه وبين الفلسطينيين ينتصر فيها وحده!

فمن ذلك:
أن صهره الفلسطيني أخذ زوجته وأعطاها لصاحبه عارضًا عليه أختها بدلاً منها
فانتقم منه انتقامًا عجيبًا بأن أخذ ثلاثمائة ابن آوى -ثعلب-، وربط كل
اثنين منهما ذَنـَبًا إلى ذنـَب، ووضع بين الذيلين مشعلاً، ثم أرسلهما على
حقول الفلسطينيين حتى احترقت -المجال لا يتسع الآن لفتح ملفات حقوق المرأة
وحقوق الحيوان والبيئة-.

وفي ليلة
بات فيها شمشون عند عاهرة فلسطينية وانتظره الفلسطينيون خارج دارها، ولكنه
اضطجع إلى نصف الليل، ثم خرج متحديًا قالعًا باب المدينة، وهو عائد أدراجه
إلى جبل حبرون.

ثم وقع في حب "دليلة
الفلسطينية"، والتي كانت تسأله عن سبب قوته فيكذب عليها مدعيًا تارة أنه
متى ربط بسبعة حبال لم يتمكن من فكها، فتربطه وهو نائم ثم تنادي عليه
كاذبة: "إن الفلسطينيين بالخارج"... فيقوم فيفك الحبال ويخرج ولا يجد
أحدًا!

ولحكمة لا نعلمها لا يغضب هو
من ذلك في حين تغضب هي؛ لأنه خدعها وأوهمها أنه لا يستطيع فك سبعة حبال،
وها هو قد فعل فيضطر إلى أن يكذب كذبة أخرى فتكتشف كذبه بنفس الحيلة، وتغضب
هي! بينما يضطر هو إلى كذبه أخرى حتى ضاق منها ذرعًا وتاقت نفسه إلى الموت
-وكأنه مكتوب على كل مخـَلصي بني إسرائيل أن يموتوا بأيدي الأعداء-؛
فأخبرها بأن قوته في أنه نذير الرب طالما لم يمس الموسى شعره.

ولحكمة
لا نعلمها أيضًا استشعرت دليلة منه الصدق في هذه المرة، وحلقت له شعره وهو
نائم، وأتت بالفلسطينيين بالفعل هذه المرة؛ ليأخذوه بعد ما ذهبت قوته،
ولحكمة لا نعلمها أيضًا استجاب الرب لطلبه استرداد قوته لمرة واحدة، وهو في
مجلس المحاكمة الفلسطيني فأعاد له قوته فهدم البناء على كل من فيه بما في
ذلك نفسه؛ لتنتهي بذلك قصة مخـَلص من مخلصي بني إسرائيل الذين خلص عليهم
رغم بُشرى ملاك الرب المزعومة في أول القصة!

والقصة
لا تحتاج إلى تعليق حول تغلغل الفكر الجبري التواكلي سلبًا وإيجابًا على
روح مؤلف هذه القصة؛ لا سيما مع الجزم بأنها مؤلفة وليست وحيًا ولا واقعًا
بدليل تخلف البشارة المزعومة فيها.

وأما فيما يتعلق بأمر التداوي خاصة:
فبالرغم من أن التوراة الحالية بقيت فيها بعض الأحكام من توراة موسى -عليه
السلام- إلا أنها خلت تمامًا من أي حكم للتداوي؛ بيد أنها بيَّنت وبطرق
تفصيلية علاج البرص، وبعد إلزام الأبرص بمعاينة الكاهن عدة مرات؛ لتحديد
نوع إصابته إذا كانت برصًا أم لا؟

فإن كانت فيكون التصرف كما في "سفر اللاويين:13-45": "وَالأَبْرَصُ
الَّذِي فِيهِ الضَّرْبَةُ، تَكُونُ ثِيَابُهُ مَشْقُوقَةً، وَرَأْسُهُ
يَكُونُ مَكْشُوفـًا، وَيُغَطِّي شَارِبَيْهِ، وَيُنَادِي: نَجِسٌ، نَجِسٌ.

46
كُلَّ الأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ الضَّرْبَةُ فِيهِ يَكُونُ نَجِسًا.
إِنَّهُ نَجِسٌ. يُقِيمُ وَحْدَهُ. خَارِجَ الْمَحَلَّةِ يَكُونُ
مُقَامُهُ".

الأعجب هو ما يكون بعد البرء كما جاء سفر اللاويين 14: "وَكَلَّمَ
الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: "هذِهِ تَكُونُ شَرِيعَةَ الأَبْرَصِ: يَوْمَ
طُهْرِهِ، يُؤْتَى بِهِ إِلَى الْكَاهِنِ. وَيَخْرُجُ الْكَاهِنُ إِلَى
خَارِجِ الْمَحَلَّةِ، فَإِنْ رَأَى الْكَاهِنُ وَإِذَا ضَرْبَةُ الْبَرَصِ
قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الأَبْرَصِ، يَأْمُرُ الْكَاهِنُ أَنْ يُؤْخَذَ
لِلْمُتَطَهِّرِ عُصْفُورَانِ حَيَّانِ طَاهِرَانِ، وَخَشَبُ أَرْزٍ
وَقِرْمِزٌ وَزُوفَا. وَيَأْمُرُ الْكَاهِنُ أَنْ يُذْبَحَ الْعُصْفُورُ
الْوَاحِدُ فِي إِنَاءِ خَزَفٍ عَلَى مَاءٍ حَيٍّ. أَمَّا الْعُصْفُورُ
الْحَيُّ فَيَأْخُذُهُ مَعَ خَشَبِ الأَرْزِ وَالْقِرْمِزِ وَالزُّوفَا
وَيَغْمِسُهَا مَعَ الْعُصْفُورِ الْحَيِّ فِي دَمِ الْعُصْفُورِ
الْمَذْبُوحِ عَلَى الْمَاءِ الْحَيِّ، وَيَنْضِحُ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ
مِنَ الْبَرَصِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَيُطَهِّرُهُ، ثُمَّ يُطْلِقُ
الْعُصْفُورَ الْحَيَّ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ".

فهذا
هو نوع التداوي المذكور في العهد القديم! والأمر لا يحتاج منا إلى تعليق،
وإن كنا نود أن نسمع تعليقـًا من بندكت، أو من أحد أعوانه، أو من أحد
أعوانهم، أو حتى من الذين يحاكمون ذلك الرجل، وكان الأولى بهم أن يحاكموا
أنفسهم على تقديمهم هذا الكلام للناس على أنه كلام الله -تعالى الله عما
يقولون علوًا كبيرًا-!!

وأما موقف
العهد الجديد من الأخذ بالأسباب عمومًا فلا يختلف عن موقف العهد القديم،
ورغم أن العهد الجديد هو قصة حياة عيسى -عليه السلام- من وجهة نظر كتاب
الأناجيل إلا أنها مليئة بصور التواكل ابتداءً من موقف عيسى -عليه السلام-
من قتل يحيى -عليه السلام- بسبب قوله كلمة الحق عند سلطان جائر، والتي
تمثلت في الفرار إلى الشاطئ الآخر من البحيرة دون أن يفكر في مساندته
خاذلاً يحيى -عليه السلام- في زعمهم؛ حيث تركه يواجه الظلم وحده، ثم لما
قتل تركه أيضًا وحده، مع أنه كان أكثر أتباعًا، فضلاً عن معجزاته التي كان
منها إمكان التخفي بحسب روايتهم! فضلاً عن ألوهيته المدعاة عندهم!!

وعلى
الرغم من أن مواجهته لمحاولة الصلب كان فيها الفرار والاختباء، وإعداد
السلاح، والأهم من ذلك كله الصلاة طوال الليل، ويبدو أن هذا الجزء من قصته
-عليه السلام- لم تعبث به أيدي الكذب كثيرًا، إلا أننا نفاجأ أن كتاب
الأناجيل طلبًا للوصول إلى النتيجة المطلوبة عندهم وهي حدوث الصلب قد
فاجئونا بأن الحواريين لم يحملوا سلاحًا إلا واحدًا حمل سيفـًا قطع به أذن
أحد الجنود، ثم نهاه عيسى -عليه السلام- واستسلم للجنود، ولكن الأعجب من
ذلك كان التزامه الصمت التام أثناء محاكمته رغم أنه كان يجب أن يتكلم لبيان
الحق أولاً، ثم للدفاع عن نفسه ثانيًا.

ولكنه
ترك هذا وذاك! وهذا ما يفسره شراح العهد الجديد بأنه جاء ليصلب، ومن ثمَّ
لم يدافع عن نفسه؛ مع أنهم يروون محاولة الهرب والدفاع قبل القبض عليه، كما
يروون توسله إلى الرب بعد ذلك أن يجيز عنه تلك الكأس في أثناء عملية
الصلب.

إننا أمام قصة حياة منسوبة
لنبي، بل للإله -تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-، وهي مع ذلك قصة يغلب
عليها السلبية الشديدة، وترك الأخذ بالأسباب.

وإذا
أضفتَ إلى ذلك النظرة التي يقدمها العهد الجديد للمال كما في قصة الشاب
الغني حيث ينسب متى إلى عيسى -عليه السلام- قوله: "فَقَالَ يَسُوعُ
لِتَلاَمِيذِهِ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ
غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ! أَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ
مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ
إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!"
متى -19-23.
بالإضافة
إلى الكلمات الشهيرة في التعامل مع الظالم سلطانـًا كان أو غير سلطان:
"بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ
أَيْضًا" و"أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ"!!

هذا
مع اصطفاء أعوان الظالمين من جامعي الضرائب الذين يجمعونها من اليهود
ويعطونها للرومان، ومنهم: "متـَّى العشار" المعدود عندهم في الحواريين!

إذن فالإطار العام للصورة التي يرسمها العهد الجديد عن عيسى -عليه السلام- إطار جبري تواكلي!
ثم إذا انتقلنا إلى قضية التداوي على وجه الخصوص:
وجدنا
أن كُتـَّاب العهد الجديد قد وظفوا معجزات عيسى -عليه السلام-، وبالغوا
فيها إلى الدرجة التي ينسبون فيها إلى عيسى -عليه السلام- أنه قال لأصحابه
كما في متى11- 4: "فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان
وتنظران: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون،
والموتى يقومون، والمساكين يبشرون، وطوبى لمن لا يعثر فيّ".

والمتأمل
لرواية كُتـَّاب الأناجيل يرى أن الأمر لم يكن إظهار أمر خارق للعادة من
باب إقامة الحجة، بل إن الشفاء صار مقصودًا لذاته من إتيان عيسى -عليه
السلام- إلى الحد الذي تجزم معه إن صحت تلك الروايات بأنه لم يكن هناك مجال
للطب بأي حال من الأحوال! وانظر إلى قول متى13-35:

"فَعَرَفَهُ
رِجَالُ ذلِكَ الْمَكَانِ. فَأَرْسَلُوا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْكُورَةِ
الْمُحِيطَةِ وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى وَطَلَبُوا
إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ الَّذِينَ
لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ".

وازداد الطين بلة بزعم توريث هذه المعجزات للتلاميذ، واعتبارها دليلاً على صدقهم، وفي ذلك يقول لوقا 9-1:
"وَدَعَا
تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى
جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ، وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا
بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى. وَقَالَ لَهُمْ: "لاَ تَحْمِلُوا
شَيْئًا لِلطَّرِيقِ: لاَ عَصًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ خُبْزًا وَلاَ
فِضَّةً، وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. وَأَيَّ بَيْتٍ
دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا، وَمِنْ هُنَاكَ اخْرُجُوا. وَكُلُّ
مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَانْفُضُوا
الْغُبَارَ أَيْضًا عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ". فَلَمَّا
خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ
وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ".

إذن
ففعل الرجل الأمريكي نابع من صميم كتابهم وإن كان قد انفرد بذلك التصرف
وسط قوم غارقين في الأخذ بالأسباب المادية حتى آذانهم، فذلك لأنه لم يستوعب
أن القوم لم يعودوا يأخذون من دينهم بعد إذ أقعدهم عن كل نافع في الدنيا
طوال العصور الوسطى؛ إلا ركونهم بأنه قد جاء لهم مخلص من عذاب الآخرة،
وأنهم متى انتموا إليه أمِنوا عذاب الآخرة، وهم مع ذلك لا يتدبرون في
تفاصيل ذلك الدين، وبحسبهم أن يعطيهم هذا الدين ذلك الأمان من عذاب الآخرة
-إن وجد-، وأما نعيم الآخرة فبناء على عقيدتهم فيه بأنه معنوي، فهم منصرفون
عنه إلى نعيم الدنيا، ومن ثمَّ صار جلّ عملهم للدنيا؛ طلبًا لنعيمها،
وهربًا من شقائها.

وأما نصوص كتابهم
التي تصادم حقائق الدنيا ومصالحها فمعطلة عن العمل، ولو كنا ما زلنا في
العصور الوسطى لحذفت نهائيًا من كتابهم، ولكن أنى لهم ذلك والمطابع وما
تلاها من صور التوثيق أوقفت تيار التعديل المكتوب مع بقائه متدفقـًا كما
كان، بل أكثر في إطار الفهم والعمل!

وما
دمنا قد عرضنا في إيجاز إلى أن الجبر والتواكل هو داء "كتابهم المقدس"،
فلابد أن نشير إلى أن نفي القدر، والغرور بالأسباب هو داء علمانيتهم، وأننا
نرفض الأمرين على حد سواء، وأن رسولنا
-لأمريكي إذ يأمره دينه بقتل ابنته! Salla-y- قد لخص لنا الأمر عندما سُئل عن جدوى العمل مع القدر فقال: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) (متفق عليه)، هذا بصفة عامة.
وأما في التداوي خاصة فقد قال -لأمريكي إذ يأمره دينه بقتل ابنته! Salla-y-: (تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً، إِلاَّ وَقَدْ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، بل أمر بأسباب الوقاية كما في قوله: (فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وأمر بما يسمونه الآن: "الحجـْر الصحي"، كما في حديث الطاعون.
ومع
هذا فما زال الغربيون وأذنابهم ينكرون على المسلمين أشياء من ذلك عمومًا،
وفي باب التداوي خصوصًا، فهم لا يريدون من المريض أن يدعو الله، ويعتبرون
دعاء الله نوعًا من الطعن في الأخذ بالأسباب! مع أن المسلم يدعو ربه ويأخذ
بالأسباب، يدعو ربه لأنه مالك الأسباب، ويأخذ بها؛ لأن الله أمره بذلك، ومع
هذا يعلم أنه لا يأتيه إلا ما قدر له، ويُسلـِّم لهذا القدر طالما قد أخذ
بالأسباب باحثـًا عن الأسباب الأعلى التي يمكن أن يكون الله قد ابتلاه
بسببها كما في قوله -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)
(الروم:41)، أو يحتسب أن يكون قد ادخر له من أجلها الثواب في الآخرة.
وفي معنى الدعاء:
"الرقية"، و"الاستشفاء بماء زمزم"، وهذه الأمور قد جعلها الله من أسباب
إجابة الدعاء، وبالتالي فهي لا تعتبر بديلاً عن الأسباب الظاهرة كما يتظاهر
البعض بأن هذا هو الذي يفهمه من هذه الأمور؛ فيعلق عليها بأنه لو كان
الأمر كذلك لكان الواجب إغلاق كليات الطب(1)!

كما
يشغب بعضهم على أحاديث نبوية أرشدت إلى طرق ظاهرة للعلاج: كـ"الحجامة -
والكي"، أو إلى أنواع من الأدوية كـ"عسل النحل - وحبة البركة".

وفات
هؤلاء أن هذه النصوص النبوية في بيان طرق علاج ترد على فريتهم الأولى بأن
الإسلام يُعلـِّم التواكل، ولكن لم يفتهم التهكم المعتاد بأن هذه النصوص
يلزم منها إغلاق كليات الطب!

ورغم أن
أقوامًا من الكفار قد قطعوا أشواطـًا كبيرة من الاستفادة من تلك التوجيهات
النبوية إلا أن زاعمي التنوير ما زالوا يرددون: "سوف تـَفضحون الإسلام
أمام الغرب"! مع أننا لم ولن نسمع عن تعليقاتهم على هذا الهوس الديني
الحقيقي عند الغرب!

واشتد نكير القوم على حديث: (إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ مِنَ السَّامِ) (متفق عليه)؛
لأنه في زعمهم يقتضي أكثر من غيره الإغلاق التام لكليات الطب مع أن
المسلمين لم يُؤثـَر عنهم عبر تاريخهم مع إيمانهم بهذا الحديث، وبغيره من
نصوص الوحي انصرافهم عن أسباب التداوي الأخرى حتى فاقوا فيها العالم أجمع؛
ذلك لأنهم يضعون هذا الحديث في إطاره، ويفهمون دلالته من أن الحبة السوداء
تساهم في علاج جميع الأمراض، ولا يعني ذلك أن يتوصل الإنسان إلى الطريقة
المثالية لاستخدامها مع كل مرض كما لا يلزم أن تكون هي العلاج الأنفع لكل
مرض.

ومنهم من يعلل ذلك:
بأنها ترفع كفاءة جهاز المناعة، وبالتالي تكون شفاء لكل داء بصورة غير
مباشرة، ومثل ذلك يقال في عسل النحل، وقريب من ذلك يقال في الحجامة التي
لها دورها في تنشيط الجهاز العصبي، وهي في ذلك تشترك مع الإبر الصينية،
والتي تلقى من القوم كل ترحيب كما أنها تزيد عليها بتنشيط الدورة الدموية
لا سيما في الأطراف والمفاصل المعرضة لوجود احتقان فيها.

وبعد...
فإذا
كان القوم قد مرروا هذه الحادثة من حوادث الهوس الديني كما مرروا غيرها
فهل نطمع منهم أن يكفوا عن التعميم في قضايا الانحراف في فهم الدين، والتي
يحدث بعضها في بلاد المسلمين؟! أم أن العلمانيين في بلادنا: "يتمنون لنا
الغلط" بينما "يبلعون من أسيادهم الزلط"؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1)
وكأن إغلاق كليات الطب رغبة مكبوتة في صدور هؤلاء المثقفين تخرج على صورة
إلزام للإسلاميين، ويغلب على ظني أن سبب هذه الرغبة المكبوتة لإغلاق كليات
الطب هو أن معظمهم يكون إلى الثانوية العامة كأي فتى أقصى أحلامه أن يدخل
الكليات المسماة بكليات القمة، ثم إذا عجز عنها انصرف إلى ما يرونه هم
ثقافة من نفايات الفكر الغربي.

كما
أن كليات الطب خرَّجت معظم "قادة الصحوة الإسلامية في السبعينات"، والتي
هزمت الفكر الإلحادي، والعلماني، وأقصته عن التأثير على رجل الشارع، فلم
تبقَ لهم إلا حوانيت يسمونها "ثقافية"! وإلا "جوائز مشبوهة" يسعون للفوز
بها لخداع الناس مع كثرة من الكذب على الإسلام والإسلاميين!


منقول من ال BBC